فاسدون ضد الفساد، وأغبياء ضدالجهل، ومنحرفون ضد الرذيلة.. تلك معالم مشهد بات يتكرر بانتظام! في كل يوم ألتقي عدداً وفيراً من الذين يبدون حزنهم علي الأوضاع العامة في مصر، وجدول الأعمال الجاهز في هذه المناسبات يشبه بناء الشعر الجاهلي، فالبداية هي البكاء علي الأطلال، ثم توجيه النقد إلي الحبيب، ثم غمر كل شيء بالتراب، انتهاء إلي حكمة لا مفر منها تشي بأنه لا أمل ولا معني ولا جدوي وما أديم الأرض إلا من هذه الأجساد!
وإذا كان طبيعيا أن يقوم الشرفاء بنقد الأوضاع غير الشريفة، أو أن يقوم ذوو الأيادي البيضاء بمحاولات لوقف ذوي الأيادي السوداء أو أن يقوم ذوو الفكر والرأي بنقد حالة البله العام في البلاد أو محاولة تصحيح أوضاع أو أوزان الذين يعلمون والذين لا يعلمون. إذا كان ذلك كله طبيعيا وواجباً فإن بعضاً مما يجري في مصر الآن يخرج عن هذا السياق إلي سواه. مقال ساخن بقلم أحمد المسلماني : بقية المقال .. فاسدون بلا حدود! لست واحداً ممن يحفلون بالوثائق والأدلة في تقديم براهين لما يرون ويعتقدون، وفي الحالات النادرة التي يلحّ فيها هاجس الوثائق والنصوص أصبح واحداً ممن لايملكون ما يرغبون. ذلك أن الوثائق في مصر هي أمر نادر الظهور حيث يتوجب الظهور، وهي في العادة ملاحق لكتب المؤرخين ومذكرات الصحفيين، وهي أداة تحلية أكثر منها أداة تحليل، ثم إنها أداة عرض واستعراض أكثر منها وسيلة ثواب أو عقاب. وعلي ذلك فالوثائق سرية حتي إذا خلت من الفائدة ظهرت إلي العلن ليحفل بها كثير من الباحثين وقليل من المواطنين. وفوق السرية فهي تخضع لمغامرات عديدة في حال تسريبها، وما أسهل أن يتلقف الصحفيون وثائق صحيحة المضمون خاطئة الشكل، فيجري الدفع ببطلان الإجراءات. واللافت للنظر أن الرأي العام بكامله ومن قبله ومن بعده الصحفيون يعرفون تماماً أبطال الفساد ومواطنهم، ولكنهم لا يستطيعون خوض المعركة بما يكفي من أوراق، وفي معظم الحالات التي خاض فيها الصحفيون حروباً أخلاقية ضد شخصيات فاسدة خسر الصحفيون خسائر فادحة. لقد اتسعت ملفات الفساد في هذه الأثناء لتمتد من الكبار إلي الصغار، ولا أبالغ إذا قلت إن المأزق الأكبر في مصر لا يمثله فساد الكبار الذين يمكن هزيمتهم جميعاً في معركة إصلاحية واحدة، ولكن المأزق حقاً هو في صغار الفاسدين، والفاسدون الصغار باتوا يمثلون جانباً كبيرا من النسيج الاجتماعي في مصر، فهم في كل مكان من الحدود إلي الحدود، فصغار المرتشين يمتدون من المطارات إلي الحمامات ومن العاملين في المؤسسات إلي العابرين في الطرقات، ومن فتوات الملاهي إلي حراس المساجد.. صار لدينا وطن آخر من صغار الفاسدين! حتي تدرك حجم وطن الفاسدين إلي حجم الوطن الأم، ما عليك إلا أن تجمع ما تكتبه الصحف في صفحات التحقيقات والاقتصاد والحوادث، وما يبثه التليفزيون من شكاوي ومعاناة وغضب للمواطنين، فوراء كل شكوي يوجد فاسد، ووراء كل إهمال في مدرسة أو مستشفي ثمة فاسد وراءه فاسد، ووراء كل هبوط في الاقتصاد أو تراجع في الأداء يتربع فاسد من فوقه فاسد ومن تحته فاسد. وإذا كانت هذه ملامح أزمة يعمل مخلصون عديدون علي حصارها، فإن ما يصفع الانتباه هنا هو حجم الفاسدين الذين يهاجمون الفساد، وحجم الجهلاء الذين ينتقدون السطحية والإفلاس، وعدد السفهاء الذين يرون في السلطة ومن فيها فشلاً ذريعاً ذلك أنها لا تحفل بما يرون ولا تضعهم في مواقع الإدارة والنفوذ. وما أكثر الفاسدين الذين يتحدثون اليوم عن فساد الآخرين، وما أكثر الذين يقبضون لأجل مهاجمة اللصوص!وفي الثقافة والصحافة تخطو المأساة إلي مدي أبعد، ذلك أن المنافقين الجدد باتوا ساخطين علي المنافقين القدامي، وأن من يحملون راية التغيير هم أولي الناس بالعصف والتبديل. إن الجيل الجديد من تحالف عديمي الموهبة يقول نفس الكلام الذي يقوله كبار الإصلاحيين والمفكرين. إنهم يهاجمون الجهل والركاكة والفساد والمحسوبية وعدم الكفاءة والنفاق وتدني مستوي المهنة، وأنهم يسرقون كلام الشرفاء في وضح النهار! لم يترك الفاسدون الجدد مجالاً لنقد الفساد إلا طرقوه، ولا جملة مفيدة في إدارة الصراع علي الفساد ألا تعلقوا بها، ولا طريقاً للإطاحة بقدامي الفاسدين إلا بذلوا لأجله النفس والنفيس! يالها من مفارقة مذهلة.. لصوص يهاجمون السرقة، وحمقي يطاردون الجهل، وعُصاة يدعون إلي مملكة الجنّة! *نقلا عن صحيفة "المصري اليوم" المصرية
|